كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بَدَأَ بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَهُمْ بِإِقْدَارِهِمْ عَلَى أَسْبَابِهِ، وَثَنَّى بِنَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ الْخَاصِّ بِاللهِ تَعَالَى فَقَالَ: {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أَيْ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهُوَ مَا حَجَبَ اللهُ عِلْمَهُ عَنِ النَّاسِ بِعَدَمِ تَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِهِ كَكَوْنِهِ مِمَّا لَا تُدْرِكُهُ مَشَاعِرُهُمُ الظَّاهِرَةُ وَلَا الْبَاطِنَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِهِ وَلَا لِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ مِنْ أَسْبَابِهِ بِالْفِعْلِ كَعَالَمِ الْآخِرَةِ، فَالْغَيْبُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْلُومَاتِ كَخَزَائِنِ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْمَقْدُورَاتِ، يُرَادُ بِهِمَا مَا اخْتُصَّ بِاللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يُمَكِّنْ عِبَادَهُ مِنْ عَلْمِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، أَيْ: لَمْ يُعْطِهِمُ الْقُوَى، وَلَمْ يُسَخِّرْ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الْمُوصِّلَةَ إِلَى ذَلِكَ.
وَالْغَيْبُ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ} [27: 65] وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ بَعْضٍ، كَالَّذِي يَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَمْرِ عَالَمِهِمْ وَغَيْرِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ مَثَلًا، وَأَمَّا مَا يَعْلَمُهُ بَعْضُ الْبَشَرِ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا، وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ عَجْزِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَعْنَى الْغَيْبِ الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مِنْهَا مَا هُوَ عِلْمِيٌّ كَالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الرِّيَاضِيَّاتِ وَغَيْرِهَا يَسْتَخْرِجُونَ مِنْ دَقَائِقَ الْمَجْهُولَاتِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَيَضْبُطُونَ مَا يَقَعُ مِنَ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ بِالدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي قَبْلَ وُقُوعِهِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الْأَعْوَامِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَمَلِيٌّ كَالتِّلِغْرَافِ الْهَوَائِيِّ أَوِ اللَّاسِلْكِيِّ الَّذِي يَعْلَمُ الْمَرْءُ بِهِ بَعْضَ مَا يَقَعُ فِي أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَجْوَازِ الْبِحَارِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أُلُوفٌ مِنَ الْأَمْيَالِ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنَ الْإِدْرَاكَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْخَفِيَّةِ كَالْفِرَاسَةِ وَالْإِلْهَامِ، وَأَكْثَرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِانْكِشَافِ لَوَائِحُ تَلُوحُ لِلنَّفْسِ لَا تَجْزِمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَمَا يَصِلُ مِنْهَا إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ صَاحِبُهُ لِاسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ يُشْبِهُ مَا يَنْفَرِدُ بِإِدْرَاكِهِ بَعْضُ الْمُمْتَازِينَ بِقُوَّةِ الْحَاسَّةِ، كَزَرْقَاءِ الْيَمَامَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَى عَلَى بُعْدٍ عَظِيمٍ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهَا، أَوْ بِقُوَّةِ بَعْضِ الْمَدَارِكِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ آنِفًا، وَأَظْهَرُ شُرُوطِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِدْرَاكِ قُوَّةُ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيَّةِ فِي النَّفْسِ لِذَلِكَ، وَتَوَجُّهُ النَّفْسِ إِلَى الْمَدَارِكِ تَوَجُّهًا قَوِيًّا لَا يُعَارِضُهُ اشْتِغَالُ قُوًى بِغَيْرِهَا مِنَ الْمُدْرَكَاتِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي حَالِ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوِ انْفِعَالٍ نَفْسِيٍّ قَوِيٍّ يَحْصُرُ هَمَّ النَّفْسِ كُلَّهُ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [9] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْجُزْءِ كَلَامٌ نَفِيسٌ فِي هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ الْخَفِيَّةِ الْخَاصَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؛ لِخَفَاءِ أَسْبَابِهَا عَنْهُ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهَا مِمَّا يَكْثُرُ وَيَتَكَرَّرُ حَتَّى صَارَ مُعْتَادًا مِنْ أَهْلِهِ الْكَثِيرِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنَ الْخَوَارِقِ كَمَا قَالَ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَلَكِنَّا مَعَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ بَعْضَهُ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى كَرَامَةً كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِقْدَارِ الرَّسُولِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عِلْمِيٌّ تَعْلِيمِيٌّ، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَبْلِيغِ مَا عَلَّمَهُ اللهُ لِلرَّسُولِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِهَا تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خَلْقٍ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطِ اللهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ قُدْرَةً عَلَى هِدَايَةِ أَحَدٍ بِالْفِعْلِ. قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [2: 272] وَقَالَ لَهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [28: 56] وَلَوْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ لَجَعَلَهُ نُوحٌ- نَبِيُّ اللهِ- فِي هِدَايَةِ وَلَدِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ- خَلِيلُ اللهِ- فِي هِدَايَةِ أَبِيهِ آزَرَ، وَلَكِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ مَوْضُوعِهَا رُؤْيَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ اتِّبَاعًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رَأَى بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ وَوَعَى بِقَلْبِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ تَعَالَى عَالَمَ الْغَيْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالرِّسَالَةِ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْجِنِّ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [72: 26- 28] فَكَيْفَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَتَنَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنِ ادِّعَاءِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نَفْيِ التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [7: 188].
نَقُولُ:
أَوَّلًا- إِنَّ مَا يُظْهِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الرُّسُلَ هُوَ مِنَ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ الِاسْتِعْدَادَ لِعِلْمِهِ.
ثَانِيًا- إِنَّ إِظْهَارَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ مِنْ هَذَا الْغَيْبِ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي عُلُومِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يَجِدُهُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِهِ عِنْدَمَا يُظْهِرُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَإِذَا حُبِسَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةً وَلَا وَسِيلَةً كَسْبِيَّةً إِلَيْهِ كَمَا يَعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي فَتَرَاتِ الْوَحْيِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ تَوَجُّهُ قَلْبِ الرَّسُولِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ الْحَوَادِثِ مُقَدِّمَةً لِنُزُولِ الْوَحْيِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي اسْتَشْرَفَ لَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيُبَيِّنَهُ لَهُ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلْنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [2: 144] إِلَخْ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِلْمَلَكِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ، هِيَ خُصُوصِيَّةٌ لَا يُعَدُّ مِثْلُهَا مِنْ عُلُومِ الرُّسُلِ الْكَسْبِيَّةِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْمَلَكِ مُتَمَثِّلًا بِصُورَةِ بَشَرٍ أَوْ جِسْمٍ آخَرَ فَهُوَ سَبَبٌ عَامٌّ لِرُؤْيَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَمَثَّلُ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ آيَةٍ لِنَبِيٍّ أَوْ صِدِّيقٍ.
فَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُعْطَوْا عِلْمَ الْغَيْبِ بِحَيْثُ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ مِنْ عُلُومِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطَوْا قُوَّةَ التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ مُلْكِ اللهِ، وَهِيَ مَا لَمْ يُمَكِّنِ الْبَشَرَ مِنْ أَسْبَابِهِ فَيَكُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَلَا أَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِيَّةِ. كَمَا أَظْهَرَهُمْ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الرِّسَالَةِ. وَنَفْيُ ادِّعَاءِ الرَّسُولِ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ يَتَضَمَّنُ التَّبَرُّؤَ مِنِ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ- كَمَا قِيلَ- أَوِ ادِّعَاءِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِ وَهُوَ أَوْلَى وَيَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَاصٌّ بِالْإِلَهِ الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ لَهُ، وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ بِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ؛ إِذْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا وَرَاءِ الْأَسْبَابِ، وَمِنَ الْإِخْبَارِ بِمَا يَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ عِلْمُ الْغَيْبِ صِفَةً لَهُ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَقَدْ سَأَلُوهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنْ وَقْتِ نُزُولِ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ بِهِمْ، وَعَنْ وَقْتِ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ.
وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يُؤْتِ الرُّسُلَ مَا لَمْ يُؤْتِ غَيْرَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَمَنْ عَلْمِ الْغَيْبِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ خَاصًّا بِهِ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ- فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ دَعْوَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ لِمَنْ هُمْ دُونَ الرُّسُلِ مَنْزِلَةً وَكَرَامَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ وَغَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ، حَتَّى صَارُوا يُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى لِمَا عَزَّ نَيْلُهُ بِالْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ و«الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نَفْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهَذَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانٌ لِكَوْنِ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى. فَضَلَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ وَجَعْلِهِمْ إِيَّاهَا شُعْبَةً مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَزَالُ مُنْتَشِرًا فِي أَذْهَانِ النَّاسِ، حَتَّى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ الْقُرْآنِ الْمُتَبَرِّكِينَ بِجِلْدِ مُصْحَفِهِ وَوَرَقِهِ وَبِالتَّغَنِّي بِهِ فِي الْمَآتِمِ وَغَيْرِهَا، الْجَاهِلِينَ بِمَا أُنْزِلَ لِبَيَانِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِ رُبُوبِيَّتَهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَمِنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَوَظِيفَةِ الرُّسُلِ، وَمِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ. دَعْ مَا دُونَ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، إِذْ نَرَى بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ فِي عُرْفِهِمْ وَعُرِفِ النَّاسِ مِنْ أَتْبَاعِ الْقُرْآنِ يَدَّعُونَ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ اللهِ وَعَلْمِ الْغَيْبِ لِمَنْ دُونَ الرُّسُلِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} أَنَّهُ أَعَادَ فِيهِ {لَا أَقُولُ لَكُمْ} وَلَمْ يَعِدْهَا فِي نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ وَنَفْيَ التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللهِ يُؤَلِّفَانِ التَّبَرُّؤَ مِنْ دَعْوَى وَاحِدَةٍ، هِيَ دَعْوَى الصِّفَاتِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا نَفْيُ ادِّعَاءِ الْمَلَكِيَّةِ فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ، فَأُعِيدَ الْعَامِلَ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَا أَدَّعِي صِفَاتَ الْإِلَهِ حَتَّى تَطْلُبُوا مِنِّي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ- وَهُوَ دُونُ مَا قَبْلَهُ- حَتَّى تَطْلُبُوا مِنِّي مَا جَعَلَهُ اللهُ فِي قُدْرَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، بَلِ ادَّعَيْتُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الْعَبْدِ الطَّاعَةُ، وَوَظِيفَةُ الرَّسُولِ التَّبْلِيغُ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ: مَا أَفْعَلُ مِنْ حَيْثُ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ إِلَّا اتِّبَاعَ مَا يُوحِيهِ إِلَى مَنْ أَرْسَلَنِي مِنْ تَبْلِيغِ دِينِهِ بِالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَمَا بَيَّنْتُ لَكُمْ آنِفًا- أَيْ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: هَلْ يَسْتَوِي أَعْمَى الْبَصِيرَةِ الضَّالُّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَلَا بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ، الْمُقَلِّدُ فِي ضَلَالِهِ وَجَهَالَاتِهِ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا عَقْلَ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ الْمُهْتَدِي إِلَيْهِ، الْمُسْتَقِيمُ فِي سَيْرِهِ عَلَيْهِ، عَلَى بَيِّنَةٍ وَبُرْهَانٍ، يَجْعَلُ مَا يَرَى الْقَلْبُ أَوْضَحَ مِمَّا تَرَى الْعَيْنَانِ؟ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: لَا يَسْتَوِيَانِ كَمَا أَنَّ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ وَبِصِيرِهِمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، فَكَأَيِّنْ مِنْ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ بَصِيرُ الْقَلْبِ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْدَى الْفُضَلَاءِ، وَكَأَيِّنْ مِنْ بَصِيرِ الْعَيْنَيْنِ أَعْمَى الْقَلْبِ هُوَ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مُقَرِّعًا لَهُمْ: {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} أَيْ فِي ذَلِكَ، فَتُمَيِّزُوا بَيْنَ ضَلَالَةِ الشِّرْكِ وَهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَتُفَرِّقُوا بَيْنَ صِفَاتِ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَصِفَاتِ الْإِنْسَانِ، وَتَعْقِلُوا حُجَّةَ الرِّسَالَةِ مِمَّا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَمَّ يُؤْتَهَا إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةِ الْبَيَانِ، وَالْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يَعْهَدُوهُ قَبْلَ الْآنِ. فَمَتَى كَانَ فِي قُدْرَةِ مِثْلِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَاطِلًا مِنْ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ.!.
هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُسْتَقِلِّينَ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، عَلَى الْمُقَلِّدِينَ فِيهِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْجَاهِلِينَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اسْتِنْبَاطِ الْمَذَاهِبِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اسْتَدَلَّتْ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَنَاقَشَهُمْ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ فِي ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِهِمْ، وَقَدْ قَرَّرَ الطُّوفِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِهِ الْإِشَارَاتُ الْإِلَهِيَّةُ، إِلَى الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} بِقَوْلِهِ: يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُ هَاهُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ؛ وَلِذَلِكَ طَلَبُوا رُؤْيَةَ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلَكٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُمْ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَقَالَ:
أَنَا لَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ كَمَا يَعْتَقِدُونَ فِي الْمَلَكِ، بَلْ أَنَا بَشَرٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ تَفْضِيلِ الْمَلَكِ، وَكُلُّ مَا أَقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلِلْخَصْمِ مَنْعُ الْأُولَى. انْتَهَى كَلَامُ الطُّوفِيِّ، وَمُرَادُهُ بِمَنْعِ الْأُولَى مَنْعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى مِنَ الْقِيَاسِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الصُّغْرَى، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُمْ عَلَى التَّفْضِيلِ.
وَقَرَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَيْ لَا أَدَّعِي مَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنْ مُلْكِ خَزَائِنِ اللهِ- وَهِيَ قَسْمُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ أَرْزَاقَهُ وَعِلْمَ الْغَيْبِ- وَأَنِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَفْضَلُهُ وَأَقْرَبُهُ مَنْزِلَةً مِنْهُ، أَيْ لَمْ أَدَّعِ إِلَهِيَّةً وَلَا مَلَكِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِلَهِيَّةِ مَنْزِلَةٌ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى تَسْتَبْعِدُوا دَعْوَايَ وَتَسْتَنْكِرُوهَا، وَإِنَّمَا أَدَّعِي مَا كَانَ مِثْلَهُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ. اهـ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي تَعَقُّبِهِ لَهُ: وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُؤَيِّدُهُ، فَلِذَلِكَ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا رَدًّا عَلَى إِنْكَارِهِمُ الشُّئُونَ الْبَشَرِيَّةَ عَلَى الرَّسُولِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْمَلَكِيَّةَ حَتَّى يُسْتَنْكَرَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمَلَكِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَفْضِيلًا، وَقَدْ أَرَادَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِالْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَهُ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [4: 172] وَقَدْ ذَكَرْنَا مُلَخَّصَ مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهَا وَمَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهِيَ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَوَائِلِ الْجُزْءِ السَّادِسِ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا أَدَّعِي مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَتِي، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ لَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ بِمَا نُفِيَ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ قُدْرَتِهِ عَنْ أَفْعَالٍ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ. اهـ.
وَاخْتَارَ أَبُو السُّعُودِ وَتَبِعَهُ الألوسي مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ كَوْنِ نَفْيِ دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ لِلرَّدِّ عَلَى اسْتِنْكَارِهِمْ أَكْلَ الطَّعَامِ وَالْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَتَكْلِيفِهِمْ إِيَّاهُ نَحْوَ الرُّقِيِّ فِي السَّمَاءِ وَكَوْنِ هَذَا لَا يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. قَالَ الألوسي: وَهَذَا الْجَوَابُ أَظْهَرُ مِمَّا نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى ابْنِ مَتَّى» فِي رَأْيٍ، بَلْ هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى زَعْمِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ. اهـ.
وَمَا نَقَلَهُ الألوسي عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لابد أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي.
وَإِذَا أُطْلِقَ الْقَاضِي عِنْدَ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ كَالرَّازِيِّ يَنْصَرِفُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْقَاضِي زَكَرِيَّا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ. كَالألوسي هُوَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوَاضُعِ بِنَفْيِ الْمَلَكِيَّةِ مُقْتَضِيًا تَفْضِيلَ الْمَلَكِ عَلَى الرَّسُولِ، وَمَا نَقَلَهُ الألوسي عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا ضِدُّهُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْمَقَامِ الْفَرْقَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ هُنَا مِنْ نَفْيِ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ إِلَى نَفْيِ دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ، وَالِانْتِقَالِ فِي آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ عَدَمِ اسْتِنْكَافِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ إِلَى نَفْيِ اسْتِنْكَافِ الْمَلَائِكَةِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الِانْتِقَالَيْنِ وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ؛ فَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِنْكَافِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرَ فِيهِ هُوَ الْأَعْلَى؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُهُ لَغْوًا، وَمُقَامُ نَفْيِ الِادِّعَاءِ يَقْتَضِي الْعَكْسَ لَا مَنْ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ قَدْ يَتَجَزَّأُ عَلَى مَا دُونِهَا وَلَا عَكْسَ، أَيْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَسَامَى إِلَى دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ لَا يَتَسَامَى إِلَى مَا فَوْقَهَا مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ بِالْأَوْلَى. هَذَا صَفْوَةُ مَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.